الصين: الحسناء الشرسة... ظاهرة الاقتصاد العالمي، نظرة من الداخل

Publié par BLADCOM













منذ وقت ليس ببعيد، كانت الصين قوة ناعمة عاتية. وقد سلطت وسائل الإعلام الضوء على غزوات قادة الصين المدروسة في الخارج، ووصفت لنا صُنّاع سياسات يحترمون آراء الآخرين، وعلى استعداد للإنصات، ومتواضعين عند الوقوع في الخطأ، وكارهين للاستغناء عن المشورة المتبرع بها حين لا يطلبونها. فكانت الصين دولة راغبة في السماح لمثالها الناجح بالتحدث عن نفسه.
ولكن هذه الأيام ولت. فاليوم تسمح الصين، مثلها في ذلك كمثل العديد من الدول الكبرى، لمعاركها السياسية الداخلية بتشكيل الكيفية التي تتفاعل بها مع العالم، وخاصة مع البلدان المجاورة التي تبدو على استعداد تام لتجاهل حساسياتها. (مع أجراس الإنذار التي تدق في مختلف أنحاء المنطقة، يبدو "محور آسيا" الأميركي الآن حكيماً بعد أن كان موضع سخرية على نطاق واسع بسبب عرضه الأولي الأخرق وعواقبه غير المقصودة).
إن الخبرة التاريخية لأي بلد تفرض تأثيراً بالغ القوة على سلوكها المعاصر، والصين ليست استثناء. فمنذ اتفاقيات سلام ويستفاليا في عام 1648، فهمت الدول الأوروبية، مع بعض الاستثناءات البارزة، القواعد الأساسية للعبة الدبلوماسية، وقد صادفت نجاحاً كبيراً في تصدير مفاهيم ويستفاليا ــ وخاصة تلك التي تتعلق بالمساواة في السيادة بموجب القانون الدولي ــ إلى أجزاء أخرى عديدة من العالم.
أما إرث الصين فهو مختلف. فلم تكن البلدان المجاورة متساوية بقدر كونها دولاً تابعة. وكانت التحالفات تتم غالباً بوصفها تمثل ما يزيد قليلاً عن حسابات مفادها أن "عدو عدوي هو صديقي".
واليوم توصف الصين على نطاق واسع في جنوب شرق آسيا باعتبارها قوة مشاغبة لا تحترم آراء الآخرين، ناهيك عن مصالحهم. ويتجلى هذا في أوضح صوره مع البلدان المطلة على بحر الصين الجنوبي، الذي يشكل شريان الحياة البحري لجنوب شرق آسيا وجارتي الصين في الشمال الشرقي كوريا واليابان. وتسعى الصين إلى تحويل بحر الصين الجنوبي إلى بحيرة صينية جنوبية، وقد ضمت السيادة على مجموعة من الصخور المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي إلى ما تطلق عليه وصف مصالحها الأساسية.
الواقع أن العشرات من البلدان في مختلف أنحاء العالم تتنازع حول مطالب إقليمية متضاربة، وخاصة في المسائل البحرية. ولكن أغلبها تحترم قاعدة متأصلة بعمق في القانون والعرف الدوليين: فالمطالبات لابد أن تتم بطريقة سلمية وبالتراضي. والتأكيد من جانب واحد على مثل هذه المطالبات يخلق التوترات ويزيد من خطر اندلاع الصراعات العنيفة ــ وهو ما يحدث غالباً نتيجة لسوء تقدير أو حادث.
في شهر تشرين الثاني، أقامت الصين من جانب واحد منطقة تعيين الهوية لأغراض الدفاع الجوي في بحر الصين الشرقي. وفي بحر الصين الجنوبي، قدمت الصين مؤخراً نظام إخطار لصيد الأسماك. ونظراً لإصرار الصين على مطالباتها الإقليمية، فإن أحداً لا يصدق تصويرها لهذه التحركات بوصفها تدابير سلامة، بل هي تُعَد جزءاً من ممارسة هازئة لأساليب "فَرِّق تَسُد" ــ وهي تكتسب السيادة بحكم الأمر الواقع على المناطق المتنازع عليها شريحة تلو الأخرى.
ومن المستبعد للغاية أن يكون قادة الصين متخوفين من أن تتحقق مطالبات قديمة من قِبَل بلدان في جنوب شرق آسيا مثل بروناي، أو أن تتوه مطالبات الصين في التاريخ. ونظراً لمدى تشكل السياسة الخارجية الصينية بما يتفق مع ملاحقتها لإمدادات طويلة الأجل من المواد اللخام ــ بما في ذلك الاحتياطيات من النفط والغاز الطبيعي في بحر الصين الجنوبي ــ فهل تكون مطالبات الصين اقتصادية في طبيعتها؟
ربما، ولكن ثمة تفسير آخر يبدو مقنعاً بنفس القدر على الأقل: التوترات السياسية الداخلية في الصين.
إن زعماء الصين ومفكريها الاستراتيجيين (المجموعتان اللتان لا تتداخلان دوما) كثيراً ما يتحدثون عن كراهية الصين لعدم انضباط الديمقراطية. ويؤكدون لنا أن النظام السياسي في الصين أكثر انضباطاً وحسما.
ولكن كل النظم السياسية لابد أن تعالج مصالح متضاربة، وعندما تتم هذه العملية عبر قنوات غير رسمية، فإن التنافس بين الشركاء من الممكن أن يتحول سريعاً إلى مشاجرة. والواقع أن المؤسسات في الصين مستنفرة ضد بعضها البعض على نحو غير مسبوق. فالأجهزة الأمنية الداخلية تتنافس ضد المؤسسة العسكرية على الموارد والنفوذ، وكلاهما ينافس المؤسسات المدنية.
وعلاوة على ذلك فإن أي هيئة حكومية ليس لديها غالباً أدنى فكرة عما تقوم به أي هيئة حكومية أخرى. ولابد أن تسلك عملية الفصل في المنافسة المؤسسية أحياناً كل الطريق إلى القمة، حيث يكافح زعماء الصين من أجل الحفاظ على السيطرة والتوازن.
وعلى الرغم من المظاهر فإن أجندة الرئيسي شي جين بينج الإصلاحية لا تنطوي كما نتصور على رؤية شاملة للمستقبل ــ أو ما يطلق عليه شي وصف "الحلم الصيني" ــ تصلح كأداة للإبحار عبر حسابات سياسية معقدة لازمة لضمان إرضاء الجميع بالقدر الكافي لمنعه من التمرد. ولا يملك المرء إلا أن يتخيل كم المشاكل التي يواجهها في كل صباح.
وفي المقام الأول من الأهمية، يتعين على شي أن يحافظ على علاقة قوية مع الأمن والبيروقراطية العسكرية. فبدون دعم هاتين المؤسستين لن ينجح في تنفيذ الإصلاحات التي تحتاج إليها الصين من أجل تجنب ما يسمى بفخ الدخل المتوسط. لذا، فربما يفعل ما يتعين على أي زعيم غيره في أي مكان أن يفعل: انتقاء معاركه وتحديد أولوياته. فضلاً عن ذلك، فلأن النزعة القومية في الصين كثيراً ما تخدم كوكيل للإحباط الشعبي في مواجهة السلطات، فإن المرء يستطيع أن يرى لماذا لم تضع الحكومة، التي لا تريد أن تبوء جهودها بالفشل، الحساسيات اليابانية أو الفلبينية أو الكورية الجنوبية أو الفيتنامية على قائمة أولوياتها القصوى.
ولكن برغم هذا، فما لم تعمل الصين على تحسين علاقاتها بجيرانها، فإن صورتها الدولية سوف تستمر في التدهور. وبوسعها أن تبدأ بانتهاج موقف أكثر احتراماً في التعامل مع رابطة دول جنوب شرق آسيا. والواقع أن إصرار زعماء الصين على خوف مفاوضات ثنائية مع البلدان الأعضاء في هذه الرابطة، بدلاً من التعامل مع الكتلة برمتها، لم يسفر عن شيء غير تأجيج المخاوف والاستياء في المنطقة.
ولن تقطع الصين شوطاً طويلاً باعتمادها على الحجة الباطلة الزائفة التي تزعم أن الولايات المتحدة تعمل بشكل أو آخر على إثارة العداوة ضدها، وكأن تعمد الأذى على هذا النحو من شأنه أن يفيد المصالح الطويلة الأجل لأميركا التي تعاني بالفعل من وفرة من المشاكل. وبدلاً من هذا، يتعين على الصين أن تشجع تطوير الهياكل المتعددة الأطراف ــ ومرة أخرى بداية برابطة دول جنوب شرق آسيا ــ القادرة على إدارة الفوائد الاقتصادية التي قد تحققها الأراضي المتنازع عليها. وكما يقول المثل فإن الأسوار الجيدة تضمن الجيرة الطيبة.